سورة البقرة - تفسير تيسير التفسير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


أما هنا فقد جاء فيهم ثلاثة عشرة آية تبيّنت فيها صفاتهم وحقيقتهم وخطتهم في الضلالة. هذا شرح وتفصيل لأحوال المنافقين وخداعهم، وهم أخبث الناس، لأنهم ضماو على لاكفر الاستهزاءَ والخداع والتمويه، فنعى الله عليهم مكرهم وخداعهم بقوله ما معناه: إن بعض الناس قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يزعمون أنهم يؤمنون باله واليوم الآخر، وهم كاذبون. انما يقولون ذلك نفاقاً وخوفا من المؤمنين. وهم بعملهم هذا يظنون أنهم يخادعون الله، ظناً منهم انه غير مطلع على خفاياهم. لكنهم في الواقع انما يخدعون أنفسهم، لأن ضرر عملهم لاحقٌ بهم. والله يعلم دخائل أنفسهم. ان هؤلاء القوم في قلوبهم مرض الشك والعناد والحسد، فزادهم الله مرضاً على مرضهم، بنصره للحق، ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ريائهم.
القراءات:
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {يخادعون اللهَ والّذين آمنوا وما يخادعون غلا أنفُسَهم} وقرأ الباقون {وما يخدعنون إلا أنفُسَهم}.


المفردات:
الفساد: خروج الشيء عن حد الاعتدال. والصلاح ضده. والسفه: خفة في العقل وفساد في الرأي.
واذا قيل لهؤلاء المنافقين لا تفسدوا في الأرض بالصدّ عن سبيل الله، ونشر الفتن برّأوا أنسفهم من الفساد، وقالوا انما نحن مصلحون. وما ذلك الا لفرط غرورهم، الذي أعماهم عن حقيقة كونهم جراثيم الفساد، وأسباب الفتن والبلاء.
واذا قيل لهم: ادخلوا في الإيمان بهذا الدين العظيم الذي دخل فيه الناس، قالوا ساخرين: أتريدون منا ان نكون مثل هؤلاء الضعفاء السفهاء، نصدّق الأوهام وننقاد للأضاليل! وذلك لأن كثيراً من المسلمين كانوا من الفقراء والموالي والعبيد مثل بلال وصهيب وسلمان الفارسي. وقد رد الله عليهم قولهم وتطاولهم وحكَم عليهم بأنهم هم السفهاء، لكنهم لا يعملون حقاً ان النقص والسفه محصور فيهم.
واذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين، قالوا: آمنا بما آمنتم به وصدّقنا الرسول وقبلنا دعوته، نحن معكم. واذا اجتمعوا بشياطين الكفر من اخوانهم الضالين، قالوا لهم: نحن معكم، انما قلنا للمؤمنين ما علمتم استخفافاً بهم واستهزاء بعقولهم.
ولقد روي أن عبدالله بن أبيّ بن سلول، رأسَ المنافقين، كان مع اصحابه فقدِم عليهم جماعة من الصحابة. فقال عبدالله لقومه: انظروا كيف أردُّ هؤلاء السفهاء عنكم. فأخذ بيد أبي بكر وقال: مرحبا بالصدّيق، سيد بني تيم، وشيخ الاسلام، والثاني رسول الله في الغار. ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: مرحباً بسيد بني عديّ، والفاروق، والقوي في دينه، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بين عليّ رضي الله عنهم فقال: مرحبا بابن عم رسول الله، وختَنِه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله.
فنزلت هذه الآية.
هذا هو عبدالله بن أُبيّ الذين كان الأوسُ والخزرجُ في يثرب يريدون أن يتوّجوه ملكاً عليهم قبل هجرة الرسول. فلما تمت الهجرة وأسلم معظم الخزرج وجميع الأوس، أُلغيت فكرة ملكيته، فحقد عبدالله على الإسلام وحسد النبي على فضله، لكنه عجز عن اظهار حنقه فنافق، وأصبح يكيد للمسلمين سراً وإن جاهر بالاسلام زوراً.
ورد الله عليهم بقوله: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} أي يجازيهم على استهزائهم ويكتب عليم الهوان، ويمهلهم في عماهم عن الحق، ثم يأخذهم بعذابه.
ان مثَل المنافقين مثل الذين باعوا الهدى، واشتروا به الضلالة. فكانوا كالتاجر الذي يختار لتجارته البضاعة الفاسدة فتكسد وتبور. بذلك لا يربح في تجارته، ويخسر ماله. والضلال والضلّ الهدى.


المفردات:
المِثل والمثَل كالشِبه والشَبه والشبيه، يُستعمل في تمثيل حالة الشيء وبيانه. وللمَثَل وقع كبير مؤثر في الكلام. وقد اكثر القرآن من ضرب الأمثال {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 29].
شبّه الله حال المنافقين بقومٍ أوقدوا ناراً لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أنارت ما حولهم من الأشياء ذهب اللهُ بنورهم، وترك موقديها في ظلماتٍ كثيفة لا يبصرون معها شيئاً. وذلك لأن الله تعالى قدّم لهم أسباب الهداية فأبصروا وعرفوا الحق بالإيمان، ثم عادوا إلى النفّاق والكفر. انهم لم يتمسكوا بهداية الله، فصارت بصائرهم مطموسة بسبب نفاقهم وتذبذبهم، فاستحقوا أن يبقوا في الحيرة والضلال.
وهؤلاء كالصُمّ، لأنهم فقدوا منفعة السمع، إذ لايسمعون الحق سماع قبولٍ واستجابة. وهم كالبُكم أي الخرس، لأنهم لا ينطقون بالهدى والحق. كذلكهم كالذين فقدوا ابصارهم لأنهم لا ينتفعون بها ولا يعتبرون. لقد سُدت عليهم منافذ الهدى وظلوا حائرين في ظلمة الكفر والنفاق فهم لا يرجعون عن ضلالهم. وتبين حقيقتُهم في سورة المنافقين {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}.
والله سبحانه وتعالَى لمّا وصفهم في الآية السابقة بأنهم اشترو الضلالة لأنفسهم الهدى الذي تخلّوا عنه مثّل هداهم الذي باعوهن بالنار المضيئة لما حولها، ومثل الضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وبقائهم في ظلمات لا يبصرون.
وهناك صورة اخرى للمنافقين، وهي صورة مفزعة تبيّن حالهم في حيرتهم بعد كذبهم على الله والناس وعلى أنفسهم مثلَ قوم نزل عليهم صيّب من السَماءِ:، أي سحاب فيه مطر شديد ورعد وصواعق، في ليلة مظلمة. لقد ارعدت السماء وأبرقت، ولم يجد القوم ملاذاً يلتجئون اليه الا خداع أنفسهم. لقد أخذوا يجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا، ويرتجفون خائفين من الموت لا يدرون إلى اين يهربون.
ذالك فَرَقهم من الرعد، أما البرق الشديد الوهج فهو يكاد يخطف أبصارهم من شدته، وكّلما أضاء لهم مشوا في ضوئه خطوات، ثم يزول. واذا ذاك يشتد الضلام فيقفون متحيرين ضالين.
وهذه صورة ناطقة لحال المنافقين: تلوح لهم الدلائل والآيات فتبهرهم أضواؤها، فيهمّون ان يهتدوا، لكنهم إذا خلَوا إلى شياطينهم من اليهود عادوا إلى الكفر والنفاق. ولو أراد الله لأذهب أسماعهم وأبصارهم من غير إرعاد ولا برق، فهو واسع القدرة لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، لكنه جاء بالصورة المذكورة تقريباً لغير المحسوس بالمحسوس، ومن باب ضربِ المثل.
انه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب، فيه تيه وضلال وفيه هو ورعب، وفيه فزع وحيرة.. والحقّ ان الحركة التي تعمر المشهد كلَّه لَتصوّر موقف الاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها اولئك المنافقون. فيا له من مشهدٍ حيّ يرمز لحالة نفسية، ويجسّم صورة شعورية. وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال لنفوس كأنها مشهد محسوس.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8